مصافحة الأزهر: انكشاف دور الكهنوت الديني

بقلم : نضال نعيسة



أكاد أجزم، فعلاً، بأن شيخ الأزهر لا علم له بحصار غزة، فهو في الحقيقة مشارك به من حيث المبدأ. ومن هنا لم تكن مشيخة الأزهر بحاجة لكل ذاك التجادل والتساجل العبثي وحالات النفي والإثبات والتأكيد ونفي النفي، ومن ثم التراجع والإقدام، وبعده الإقرار وعدم الإقرار، أو حتى الإتيان بحركات تنطوي على قدر فاقع من المراوغة والتنصل والتزويغ والتمييع، لموقف جلي وبيـّن ولا يحتاج إلى توضيح أو لكل ذاك العك و"اللعي" الطويل. فهي تعلم أن ما أتى به شيخ الأزهر هو شيء جد خطير لجهة أنه ينسف جوهر الموروث التاريخي الديني الإسلامي من جذوره في نظرته المتشددة حيال اليهود الذين يسمـّونهم علناً، وجهاراً نهاراً، بحفدة القردة والخنازير، ويحرّمون أي شكل من التعامل معهم، بل قتلهم أينما وجدوا. إنها ببساطة مصافحة حميمية ودافئة من شيخ سلفي لمتطرف صهيوني، وتعد هدية تقدم على طبق من ذهب لإرهابي وسفاح وجزار ومجرم حرب دولي أوغلت يداه بدماء أطفال أبرياء في مجزرة قانا الأولى إبان عملية عناقيد الغضب الشهيرة في ربيع 1996. وإذا كان هناك ثمة من تبرير وتلفيق دبلوماسي غير مقنع، البتة، فما هو الحال مع صميم باطن الوعي الإسلامي إذا ما ارتبطت تلك اليهودية بنسختها المسيسة صهيونياً باغتصاب القدس أولى القبلتين التي توازي أرض الحرمين قدسية في رمزيتها في وجدان عموم المسلمين، لوجود المسجد الأقصى فيها (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير، الإسراء 1). وأنه لمن السذاجة القول، بأن شيخاً فاضلاً وعالماً جليلاً، كشيخ الأزهر هذا، وتغيب عنه مثل هذه البدهيات والأساسيات اليومية التي يعيها ابن الشارع البسيط، هذا إذا علمنا أن لا يمكن لإنسان بسيط أن يتبوأ هذه المكانة العلمية والدينية والوظيفية إن لم يكن على قدر عال من الكفاءة ويتم اختياره من بين جيوش من أقرانه ممن لا يقلون عنه كفاءة وعلماً ودراية، وإن ادعاء عدم المعرفة بطبيعة الفعل هو من قبيل ذر الرماد في العيون، واستخدام تلك الفوقية الثقافوية، والإرهاب الوظيفي والسلطوي في إسكات وتخريس كافة المنتقدين نخباً، وعامة، وحياديين. ( وإذا كان الشيخ لم يذهب أصلاً للمؤتمر لهذه الغاية، فلماذا ذهب إذن؟)مصافحة حميمية واضحة ومقصودة، تأسر الألباب، من قبل من يفترض أن شرعية وجوده ترتبط بمناهضة وإفناء حفدة الخنازير والقردة هؤلاء، وإعلاء راية الإسلام. وخطابه، بالتوازي، يمثل رأس الحربة في العداء للمشروع "الصهيوني اليهودي" الاستيطاني الذي يستهدف الأمتين العربية والإسلامية كما ترطن أطنان من البلاغة الدينية التي تصم آذان هذه الشعوب بكرة وأصيلاً. وتعتبر المؤسسات الدينية، وكهنوتها، ورموزها أحد أقطاب الصراع والمواجهة بين ثقافتين وحضارتين وأمتين، إسلامية ويهودية، وحشرت نفسها، وكانت، دائماً في خلفية هذا الصراع. فماذا نفعل بهذه البلاغة بعد الآن؟ وهل يحق لشيخ الأزهر، لوحده، خرقها والعبث بأساسياتها؟فما الذي حدا بشيخ الأزهر الواعي والعالم والعارف لمعنى وطبيعة هذه المصافحة الاستفزازية التي هزت الوجدان والضمير والعقل الجمعي الإسلامي؟ وحيث كان يعتقد، افتراضياً، يعتقد وطبقاً لطبيعة وحرارة وحماسة الخطاب الإسلاموي التقليدي بأن هذا الرمز الديني الكبير هو آخر من سيمد يديه لمصافحة مجرم حرب من بين طوابير طويلة من "جمهرة" المنتظرين المطبـّعين الراغبين بالحصول على رضا حمامة السلام الإسرائيلي هذا، وكان هو السباق والمبادر لذلك؟ لم نسمع، مثلاً، رأياً احتجاجياً واحداً بارزاً من مؤسسة الأزهر احتجاجاً على هذا الاستفزاز المتعمد لمشاعر كل ضحايا العدوان الأمريكي والإسرائيلي ضد شعوب المنطقة التي لإسرائيل، بشكل أو بآخر، باع طولى فيها، والتي لم تجف دماؤهم بعد، وما زال أنين آلامهم يصم الآذان ويعلو فوق خطاب الكهنوت الديني نفسه ويستصرخه العون والثأر والمدد. كما لم يستقل أحد من وزارة الأوقاف، أو المفتيين، ولا مشايخ الإفتاء المنشغلين بالأنكحة وفقه الجماع وفتاوي إرضاع الكبير والصغير، وكيفية تفخيذ "المقمطة" في السرير. كما لم يحتج زعماء الجماعات الدينية التي تملأ الكون صراخاً وبكاء على دماء العرب والمسلمين التي أريقت على يدي الصهاينة الذين يشغل بيريز زعامة كيانهم السياسي، باستثناء تلك الحكة المسرحية من قبل الجماعة الإخوانية في مجلس الشعب المصري الذي نعرف كلنا طبيعة وجوده ومدى فعاليته وأنه لا يهش ولا ينش في نظام ديكتاتوري وعسكري استبدادي كنظام الفراعنة الحديث، وأتت، فقط، من قبيل أضعف الإيمان. وأين ذهب مفتي مصر؟ وزميله الآخر مفتي السعودية؟ وأين هو الصوت المجلجل والمزلزل لقطبنا الديني الآخر وشيخنا الجليل الدكتور يوسف القرضاوي حين يتعلق الأمر بمناهضة الغزو الشيعي أو بإصدار فتوى تتعلق بالربا والخمر و"أبواب" الجنس أو تصب، بأي شكل، في طواحين طويلي العمر؟ ألا يعني اسم حمامة السلام بيريز أي شيء للقرضاوي على الإطلاق؟ ولماذا دأب هذا الشيخ الجليل وغيره على ممارسة سياسة "السكوت من ذهب" عند صولات وجولات مجرمي الحرب الصهاينة في ديار العرب والمسلمين؟ بل أين التقاليد الشوروية التي يزعم المتأسلمون التمسك، وقرعوا رؤوسنا بها؟ فهل "استشار" سماحته أحداً ما، قبل الإقدام على مثل هذه الخطوة التي تعد الأخطر والأغرب في تاريخ الكهنوت الديني المطبق على رقاب شعور هذه المنطقة. يقول الشيخ القرضاوي في مقال له بجريدة الخليج الإماراتية يوم 5/12/2008بعنوان لماذا يتمسك المسلمون بالقدس؟ : "القدس في الاعتقاد الإسلامي، لها مكانة دينية مرموقة، اتفق على ذلك المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فهو إجماع الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها، ولا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس، والغيرة عليها، والذود عن حماها، وحرماتها ومقدساتها، وبذل النفس والنفيس في سبيل حمايتها، فللقدس قدسية إسلامية حيث تمثل في حس المسلمين ووعيهم الإسلامي، القبلة الأولى، وأرض الإسراء والمعراج، وثالث المدن المعظمة، وأرض النبوات والبركات، وأرض الرباط والجهاد...". أين أنت يا شيخنا الجليل من بيريز مغتصب القدس وسفاح الدم، أم أن البراعة هي فقط في الكلام؟ ومادام الأمر كذلك، يا مولانا، فلماذا تصافحون مغتصبي القدس؟وفي الحقيقة لم نكن بحاجة لا لهذه المصافحة ولا لغيرها لكشف تورط التيار الديني المسيس في ألاعيب المنطقة ومشاريعها السياسية، بل ربما جاءت لتؤكده وتكرسه. فهذا التيار، وعبر محطاته الأشهر في، التاريخ، ومنذ فتاوى شيوخ الإسلام التكفيرية ضد "الحركات الضالة سياسياً" في الإسلام ، وتعريجاً على تأسيس الجماعة الإخوانية في أواخر عشرينات القرن الماضي على يدي "إمامها الشهيد" رحمه الله، وبإيعاز بريطاني، مروراً بتوظيف منظمة القاعدة في خدمة "الجهاد الإمبريالي" في أفغانستان، وعنتريات الترابي في السودان، وليس انتهاء بصمت الكهنوت الديني على المجازر الصهيونية في لبنان، ومن ثم ليأتي مؤخراً، سماحة شيخ الأزهر الإمام الأكبر، بمباركتها عبر مصافحته لرمزها الأشهر مجرم الحرب المعروف شيمون بيريز، حبيب العربان الأكبر، الذي يشكل وجوده، وبحق، خارج جدران السجن خطراً على أمن البشرية جمعاء . إنها واحدة أخرى من سلسلة الوظائف الحقيقية والمضمرة التي أنيطت بهذا التيار، والمخبأة لوقتها وساعتها ومناسبتها، والتي تعمل بتؤدة وعناد وثبات لإجهاض، والإجهاز على المشروع التنويري والحداثوي التنويري في المنطقة، بمقابل إحياء وخدمة مشاريع "الكفرة والملاحدة والأعداء" وكله حسب خطاب شيوخنا الأجلاء.من الذي يرسم الصور الكاريكاتورية فعلاً ؟